الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [41] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ: قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِزَكَرِيَّا: يَا زَكَرِيَّا، {آيَتُكَ أَنْ لَا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا}، بِغَيْرِ خَرَسٍ وَلَا عَاهَةٍ وَلَا مَرَضٍ، "وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا)، فَإِنَّكَ لَا تُمْنَعُ ذَكَرَهُ، وَلَا يُحَالُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ تَسْبِيحِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ذِكْرِهِ، وَقَدْ:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاج، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَوْ كَانَ اللَّهُ رَخَّصَ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِ الذِّكْرِ، لَرَخَّصَ لِزَكَرِيَّا حَيْثُ قَالَ: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا}، أَيْضًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ)، فَإِنَّهُ يَعْنِي: عَظِّمْ رَبَّكَ بِعِبَادَتِهِ بِالْعَشِيِّ. وَ "العَشِيُّ" مِنْ حِينِ تَزُولُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ تَغِيبَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَـلَا الظِّـلَّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ، *** وَلَا الفَـيْءَ مِـنْ بَـرْدِ العَشِـيِّ تَذُوقُ فَالْفَيْءُ، إِنَّمَا تَبْتَدِئُ أَوْبَتُهُ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَيَتَنَاهَى بِمَغِيبِهَا. وَأَمَّا "الإِبْكَارُ" فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "أَبْكَرَ فُلَانٌ فِي حَاجَةٍ فَهُوَ يُبْكِرُ إِبْكَارًا)، وَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ فِيهَا مِنْ بَيْنِ مَطْلَعِ الْفَجْرَ إِلَى وَقْتِ الضُّحَى، فَذَلِكَ"إِبْكَارٌ". يُقَالُ فِيهِ: "أَبْكَرَ فُلَانٌ" وَ"بَكَّرَ يُبَكِرُ بُكُورًا". فَمِنَ "الإِبْكَارِ)، قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَمِنْ آلِ نُعَمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ *** وَمِنَ "البُكُورِ" قَوْلُ جَرِيرٍ: أَلَا بَكَـرَتْ سَـلْمَى فَجَـدَّ بُكُورُهَـا *** وَشَـقَّ العَصَـا بَعْـدَ اجْتِمَـاعٍ أَمِيرُهَا وَيُقَالُ مِنْ ذَلِكَ: "بَكَّرَ النَّخْلُ يُبَكِّرُ بُكُورًا وَأَبْكَرَ يُبْكِرُ إِبْكَارًا)، وَ "البَاكُورُ" مِنَ الْفَوَاكِهِ: أَوَّلُهَا إِدْرَاكًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}، قَالَ: الْإِبْكَارُ أَوَّلُ الْفَجْرِ، وَالْعَشِيُّ مَيْلُ الشَّمْسِ حَتَّى تَغِيبَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اِصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [42] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتْ اِمْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}، {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اِصْطَفَاكِ}. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "اِصْطَفَاكِ)، اِخْتَارَكِ وَاجْتَبَاكِ لِطَاعَتِهِ وَمَا خَصَّكَ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ. وَقَوْله: "وَطَهَّرَكِ)، يَعْنِي: طَهَّرَ دِينَكِ مِنَ الرَّيْبِ وَالْأَدْنَاسِ الَّتِي فِي أَدْيَانِ نِسَاءِ بَنِي آدَمَ {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}، يَعْنِي: اِخْتَارَكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فِي زَمَانِكِ، بِطَاعَتِكِ إِيَّاهُ، فَفَضَّلَكِ عَلَيْهِمْ، كَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (خَيْرُ نِسَائِهَامَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَة بِنْتُ خُوَيْلِدٍ" يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "خَيْرُ نِسَائِهَا)، خَيْرُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ). حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الصُّدَائِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مَحَاضِرُ بْنُ الْمُوَرَّعِ قَالَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا بِالْعِرَاقِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: خَيْرُ نِسَائِهَامَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَة. «حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ، حَدَّثَنِي الْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: »خَيْرُ نِسَاءِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَاءِ الْجَنَّةِ خَدِيجَة بِنْتُ خُوَيْلِدٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اِصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: (حَسْبُكَبِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَاِمْرَأَةِ فِرْعَوْنَ وَ خَدِيجَة بِنْتِ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ، مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِين» قَالَ قَتَادَةَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: (خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَوَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ) قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (لَوْ عَلِمْتُ أَنَّمَرْيَمَرَكِبَتِ الْإِبِلَ، مَا فَضَّلْتُ عَلَيْهَا أَحَدًا"). حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اِصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}، قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ، وَأَرْعَاهُ لِزَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِه» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَلَمْ تَرْكَبْمَرْيَمُبَعِيرًا قَطُّ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَوْلَهُ: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اِصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}، قَالَ: كَانَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ يُحَدِّثُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ اِمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَ خَدِيجَة بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ. «حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرَّةَ قَالَ، سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيُّ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: » كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّامَرْيَمُ، وَآسِيَةُ اِمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَ خَدِيجَة بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأُسُودِ الْمِصْرِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ: أَنَّفَاطِمَةَ بِنْتَ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّحَدَّثَتْهُ: أَنَّفَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: (دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَأَنَا عِنْدَ عَائِشَة، فَنَاجَانِي، فَبَكَيْتُ، ثُمَّ نَاجَانِي فَضَحِكْتُ، فَسَأَلَتْنِي عَائِشَة عنْ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: لَقَدْ عَجِلْتِ! أُخْبِرُكِ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!! فَتَرَكَتْنِي. فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَتْهَا عَائِشَة فَقَالَتْ: نَعَمْ، نَاجَانِي فَقَالَ: جِبْرِيلُ كَانَ يُعَارِضُ الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَارَضَ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ ; وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا عُمِّرَ نِصْفَ عُمْرِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَإِنَّ عِيسَى أَخِي كَانَ عُمُرُهُ عِشْرِينَ وَمِئَةِ سَنَةٍ، وَهَذِهِ لِي سِتُّونَ، وَأَحْسَبُنِي مَيِّتًا فِي عَامِي هَذَا، وَإِنَّهُ لَمْ تُرْزَأَ اِمْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ بِمِثْلِ مَا رُزِئْتِ، وَلَا تَكُونِي دُونَ اِمْرَأَةٍ صَبْرًا! قَالَتْ: فَبَكَيْتُ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّامَرْيَمَ الْبَتُولَ. فَتُوُفِّيَ عَامَهُ ذَلِكَ). حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْأُسُودِ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، أَنْ أَبَا زِيَادٍ الْحِمْيَرِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَمَّارَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فُضِّلَتْ خَدِيجَةعَلَى نِسَاءِ أُمَّتِي، كَمَا فُضِّلَتْمَرْيَمُعَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ). وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِيمَعْنَى قَوْلِهِ: "وَطَهَّرَكِ)، أَنَّهُ: وَطَهَّرَ دِينَكِ مِنَ الدَّنَسِ وَالرَّيْبِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّ اللَّهَ اِصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ}، قَالَ: جَعَلَكِ طَيِّبَةً إِيمَانًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}، قَالَ: ذَلِكَ لِلْعَالَمِينَ يَوْمئِذٍ. وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ- فِيمَا ذَكَرَ اِبْنُ إِسْحَاقَ- تَقُولُ ذَلِكَلِمَرْيَمَشِفَاهًا. حَدَّثَنَا اِبْنُ حَمِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، حَدَّثَنِي اِبْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَتْمَرْيَمُحَبِيسًا فِي الْكَنِيسَةِ، وَمَعَهَا فِي الْكَنِيسَةِ غُلَامٌ اِسْمُهُ يُوسُفُ، وَقَدْ كَانَ أُمُّهُ وَأَبُوهُ جَعَلَاهُ نَذِيرًا حَبِيسًا، فَكَانَا فِي الْكَنِيسَةِ جَمِيعًا، وَكَانَتْمَرْيَمُ، إِذَا نَفِدَ مَاؤُهَا وَمَاءُ يُوسُفَ، أَخَذَا قُلَّتَيْهِمَا فَانْطَلَقَا إِلَى الْمَفَازَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ الَّذِي يَسْتَعْذِبَانِ مِنْهُ، فَيَمْلَآنِ قُلَّتَيْهِمَا، ثُمَّ يَرْجِعَانِ إِلَى الْكَنِيسَةِ، وَالْمَلَائِكَةُ فِي ذَلِكَ مُقْبِلَةٌ عَلَىمَرْيَمَ: "يَامَرْيَمُإِنَّ اللَّهَ اِصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ زَكَرِيَّا قَالَ: إِنَّ لِابْنَةِ عِمْرَانَ لَشَأْنً.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [43] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ- خَبَرًا عَنْ قِيلِ مَلَائِكَتِهِلِمَرْيَمَ: {يَا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ}، أَخْلِصِي الطَّاعَةَ لِرَبِّكِ وَحْدَهُ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَىمَعْنَى "القُنُوتِ"فِي قَوْلِهِ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ، بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، نَحْوَ اِخْتِلَافِهِمْ فِيهِ هُنَالِكَ. وَسَنَذْكُرُ قَوْلَ بَعْضِهِمْ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى"اُقْنُتِي)، أَطِيلِي الرُّكُودَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {يَا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ}، قَالَ: أَطِيلِي الرُّكُودَ، يَعْنِي الْقُنُوتَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ "اُقْنُتِي لِرَبِّكِ)، قَالَ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَطِيلِي الرُّكُودَ فِي الصَّلَاةِ يَعْنِي الْقُنُوتَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمَّا قِيلَ لَهَا: {يَا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ}، قَامَتْ حَتَّى وَرِمَ كَعْبَاهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمَّا قِيلَ لَهَا: {يَا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ}، قَامَتْ حَتَّى وَرِمَتْ قَدَمَاهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ اِبْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مُجَاهِدٍ: {اُقْنُتِي لِرَبِّكِ}، قَالَ: أَطِيلِي الرُّكُودَ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {يَا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ}، قَالَ: الْقُنُوتُ: الرُّكُودُ. يَقُولُ: قُومِي لِرَبِّكِ فِي الصَّلَاةِ. يَقُولُ: اُرْكُدِي لِرَبِّكِ: أَيْ اِنْتَصِبِي لَهُ فِي الصَّلَاةِ "وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {يَا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ}، قَالَ: كَانَتْ تُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهَا. حَدَّثَنِي اِبْنُ الْبَرْقِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ: {يَا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ}، قَالَ: كَانَتْ تَقُومُ حَتَّى يَسِيلَ الْقَيْحُ مِنْ قَدَمَيْهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: أَخْلِصِي لِرَبِّكِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ: {يَا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ}، قَالَ: أَخْلِصِي لِرَبِّكِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: أَطِيعِي رَبَّكِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {اُقْنُتِي لِرَبِّكِ}، قَالَ: أَطِيعِي رَبَّكِ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيُّ: "اُقْنُتِي لِرَبِّكِ)، أَطِيعِي رَبَّكِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ حَرْفٍ يُذْكَرُ فِيهِ الْقُنُوتُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَهُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {يَا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ}، قَالَ يَقُولُ: اُعْبُدِي رَبَّكِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ بَيَّنَّا أَيْضًامَعْنَى "الرُّكُوعِ""وَالسُّجُودِ"بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَنَّهُمَا بِمَعْنَى الْخُشُوعِ لِلَّهِ، وَالْخُضُوعِ لَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعُبُودَةِ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ، إذًا: يَامَرْيَمُأَخْلَصِي عِبَادَةَ رَبِّكِ لِوَجْهِهِ خَالِصًا، وَاخْشَعِي لِطَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ مَعَ مَنْ خَشَعَ لَهُ مَنْ خَلْقِهِ، شُكْرًا لَهُ عَلَى مَا أَكْرَمَكِ بِهِ مِنْ الِاصْطِفَاءِ وَالتَّطْهِيرِ مِنَ الْأَدْنَاسِ، وَالتَّفْضِيلِ عَلَى نِسَاءِ عَالَمِ دَهْرِكِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ: الْأَخْبَارَ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا عِبَادَهُ عَنِاِمْرَأَةِ عِمْرَانَوَابْنَتِهَامَرْيَمَ، وَزَكَرِيَّا وَابْنِهِ يَحْيَى، وَسَائِرِ مَا قَصَّ فِي الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اِصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا}، ثُمَّ جَمَعَ جَمِيعَ ذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: "ذَلِكَ)، فَقَالَ: هَذِهِ الْأَنْبَاءُ مِنْ"أَنْبَاءِ الْغَيْبِ)، أَيْ: مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ. وَيَعْنِي بِـ " الْغَيْبِ)، أَنَّهَا مِنْ خَفِيِّ أَخْبَارِ الْقَوْمِ الَّتِي لَمْ تَطَّلِعُ أَنْتَ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَيْهَا وَلَا قَوْمُكَ، وَلَمْ يَعْلَمْهَا إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَرُهْبَانِهِمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَوْحَى ذَلِكَ إِلَيْهِ، حُجَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَتَحْقِيقًا لِصِدْقِهِ، وَقَطْعًا مِنْهُ بِهِ عُذْرَ مُنْكِرِي رِسَالَتِهِ مِنْ كُفَّارِ أَهْلٍ الْكِتَابَيْنِ، الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَصِلْ إِلَى عِلْمِ هَذِهِ الْأَنْبَاءِ مَعَ خَفَائِهَا، وَلَمْ يُدْرِكْ مَعْرِفَتَهَا مَعَ خُمُولِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، إِلَّا بِإِعْلَامِ اللَّهِ ذَلِكَ إِيَّاهُ. إِذْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيٌّ لَا يَكْتُبُ فَيَقْرَأُ الْكُتُبَ، فَيَصِلُ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْكُتُبِ، وَلَا صَاحَبَ أَهْلَ الْكُتُبِ فَيَأْخُذُ عِلْمَهُ مِنْ قِبَلِهِمْ. وَأَمَّا "الغَيْبُ" فَمَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "غَابَ فُلَانٌ عَنْ كَذَا فَهُوَ يَغِيبُ عَنْهُ غَيْبًا وَغَيْبَةً". وَأَمَّا قَوْلُهُ: "نُوحِيهِ إِلَيْكَ)، فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ: نُنَـزِّلُهُ إِلَيْكَ. وَأَصْلُ "الإِيحَاءِ)، إِلْقَاءُ الْمُوحِي إِلَى الْمُوحَى إِلَيْهِ. وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِكِتَابٍ وَإِشَارَةٍ وَإِيمَاءٍ، وَبِإِلْهَامٍ، وَبِرِسَالَةٍ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [سُورَةَ النَّحْلِ: 68]، بِمَعْنَى: أَلْقَى ذَلِكَ إِلَيْهَا فَأَلْهَمَهَا، وَكَمَا قَالَ: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [سُورَةَ الْمَائِدَةِ: 111]، بِمَعْنَى: أَلْقَيْتُ إِلَيْهِمْ عِلْمَ ذَلِكَ إِلْهَامًا، وَكَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: أَوْحَى لَهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتِ *** بِمَعْنَى أَلْقَى إِلَيْهَا ذَلِكَ أَمْرًا، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [سُورَةَ مَرْيَمَ: 11]، بِمَعْنَى: فَأَلْقَى ذَلِكَ إِلَيْهِمْ إِيمَاءً. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا وَصَفْتُ، مِنْ إِلْقَاءِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ يَكُونُ إِلْقَاؤُهُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ إِيمَاءً، وَيَكُونُ بِكِتَابٍ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [سُورَةَ الْأَنْعَامِ: 121]، يُلْقُونَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ وَسْوَسَةً، وَقَوْلُهُ: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سُورَةَ الْأَنْعَامِ: 19]، أَلْقَى إِلَيَّ بِمَجِيءِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ إِلَيَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا "الوَحْيُ)، فَهُوَ الْوَاقِعُ مِنَ الْمُوحِي إِلَى الْمُوحَى إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ سَمَّتِ الْعَرَبُ الْخَطَّ وَالْكِتَابَ"وَحْيًا)، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ فِيمَا كُتِبَ ثَابِتٌ فِيهِ، كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: أَتَـى العَجَـمَ وَالْآفَـاقَ مِنْـهُ قَصَـائِدٌ *** بَقَيْـنَ بَقَـاءَ الْوَحْيِ فِي الْحَجَرِ الْأَصَمِّ يَعْنِي بِهِ: الْكِتَابَ الثَّابِتَ فِي الْحَجَرِ. وَقَدْ يُقَالُ فِي الْكِتَابِ خَاصَّةً، إِذَا كَتَبَهُ الْكَاتِبُ: "وَحَى" بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ: كَأَنَّـهُ بَعْـدَ رِيَـاحٍ تَدْهَمُـهْ *** وَمُرْثَعِنَّـاتِ الدُّجُـونِ تَثِمُـهْ إِنْجِيلُ أَحْبَارٍ وَحَى مُنَمْنِمُهْ ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: "وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ)، وَمَا كُنْتَ، يَا مُحَمَّدُ، عِنْدَهُمْ فَتَعْلَمُ مَا نُعَلِّمُكَهُ مِنْ أَخْبَارِهِمْ الَّتِي لَمْ تَشْهَدْهَا، وَلَكِنَّكَ إِنَّمَا تَعْلَمُ ذَلِكَ فَتُدْرِكَ مَعْرِفَتَهُ، بِتَعْرِيفِنَاكَهُ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "لَدَيْهِمْ)، عِنْدَهُمْ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "إِذْ يُلْقُونَ)، حِينَ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ. وَأَمَّا"أَقْلَامُهُمْ)، فَسِهَامُهُمْ الَّتِي اِسْتَهَمْ بِهَا الْمُسْتَهِمُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى كَفَالَةِمَرْيَمَ، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ فِي قَوْلِهِ: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ}، يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ}، زَكَرِيَّا وَأَصْحَابُهُ، اِسْتَهَمُّوا بِأَقْلَامِهِمْ عَلَىمَرْيَمَحِينَ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}، كَانَتْمَرْيَمُاِبْنَةَ إِمَامِهِمْ وَسَيِّدِهِمْ، فَتَشَاحَّ عَلَيْهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَاقْتَرَعُوا فِيهَا بِسِهَامِهِمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا، فقَرَعَهُمْ زَكَرِيَّا، وَكَانَ زَوْجُ أُخْتِهَا، "فَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا)، يَقُولُ: ضَمَّهَا إِلَيْهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ}، قَالَ: تَسَاهَمُوا عَلَى مَرْيَمَ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا، فَقَرَعَهُمْ زَكَرِيَّا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}، وَإِنَّمَرْيَمَلَمَّا وُضِعَتْ فِي الْمَسْجِدِ، اِقْتَرَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْمُصَلَّى وَهُمْ يَكْتُبُونَ الوَحْيَ، فَاقْتَرَعُوا بِأَقْلَامِهِمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُهَا، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ". حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ، قَالَ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدٍ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}، اِقْتَرَعُوا بِأَقْلَامِهِمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، فَقَرَعَهُمْ زَكَرِيَّا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ}، قَالَ: حَيْثُ اِقْتَرَعُوا عَلَىمَرْيَمَ، وَكَانَ غَيْبًا عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخْبَرَهُ اللَّهُ. وَإِنَّمَا قِيلَ: "أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ)، لِأَنَّ إِلْقَاءَ الْمُسْتَهِمِينَ أَقْلَامَهُمْ عَلَىمَرْيَمَ، إِنَّمَا كَانَ لِيَنْظُرُوا أَيُّهُمْ أَوْلَى بِكَفَالَتِهَا وَأَحَقُّ. فَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ)، دَلَالَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ: "لِيَنْظُرُوا أَيُّهُمْ يَكْفُلُ، وَلِيَتَبَيَّنُوا ذَلِكَ وَيَعْلَمُوهُ". فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي"أَيِّهِمْ" النَّصْبُ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، فَقَدْ ظَنَّ خَطَأً. وَذَلِكَ أَنَّ "النَّظَرَ" وَ "التَّبَيُّنَ" وَ "العِلْمَ" مَعَ"أَيِّ" يَقْتَضِي اِسْتِفْهَامًا وَاسْتِخْبَارًا، وَحَظُّ"أَيٍّ" فِي الِاسْتِخْبَارِ، الِابْتِدَاءُ وَبُطُولُ عَمَلِ الْمَسْأَلَةِ وَالِاسْتِخْبَارِ عَنْهُ. وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: "لَأَنْظُرَنَّ أَيُّهُمْ قَامَ)، لْأَسْتَخْبِرَنَّ النَّاسَ: أَيُّهُمْ قَامَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: "لَأَعْلَمَنَّ". وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ أَنَّ مَعْنَى"يَكْفُلُ)، يَضُمُّ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [44] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَا كُنْتَ، يَا مُحَمَّدُ، عِنْدَ قَوْمِمَرْيَمَ، إِذْ يَخْتَصِمُونَ فِيهَا أَيُّهُمْ أَحَقُّ بِهَا وَأَوْلَى. وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَوْبِيخٌ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُكَذِّبِينَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ. يَقُولُ: كَيْفَ يَشُكُّ أَهْلُ الْكُفْرِ بِكَ مِنْهُمْ وَأَنْتَ تُنَبِّئُهُمْ هَذِهِ الْأَنْبَاءَ وَلَمْ تَشْهَدْهَا، وَلَمْ تَكُنْ مَعَهُمْ يَوْمَ فَعَلُوا هَذِهِ الْأُمُورَ، وَلَسْتَ مِمَّنْ قَرَأَ الْكُتُبَ فَعَلِمَ نَبَأَهُمْ، وَلَا جَالَسَ أَهْلهَا فَسَمِعَ خبَرَهُمْ؟ كَمَا:- حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ اِبْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}، أَيْ مَا كُنْتَ مَعَهُمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ فِيهَا. يُخْبِرُهُ بِخَفِيِّ مَا كَتَمُوا مِنْهُ مِنَ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ، لِتَحْقِيقِ نَبُّوَتِهِ وَالْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ لِمَا يَأْتِيهِمْ بِهِ مِمَّا أَخْفَوْا مِنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ}، وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ، وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ أَيْضًا إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَامَرْيَمُإِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ. " وَالتَّبْشِيُر" إِخْبَارُ الْمَرْءِ بِمَا يَسُرُّهُ مِنْ خَبَرٍ. وَقَوْلُهُ: "بِكَلِمَةٍ مِنْهُ)، يَعْنِي بِرِسَالَةٍ مِنَ اللَّهِ وَخَبَرٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "أَلْقَى فُلَانٌ إِلَيَّ كَلِمَةً سَرَّنِي بِهَا)، بِمَعْنَى: أَخْبَرَنِي خَبَرًا فَرِحْتُ بِهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [سُورَةَ النِّسَاءِ: 171]، يَعْنِي: بُشْرَى اللَّهِمَرْيَمَ بِعِيسَى، أَلْقَاهَا إِلَيْهَا. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَمَا كُنْتَ، يَا مُحَمَّدُ، عِنْدَ الْقَوْمِ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُلِمَرْيَمَ: يَامَرْيَمُإِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِبُشْرَى مِنْ عِنْدِهِ، هِيَ وَلَدٌ لَكِ اِسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ- وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ-: إِنَّ "الكَلِمَةَ" الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "بِكَلِمَةٍ مِنْهُ)، هُوَ قَوْلُهُ: "كُنْ". حَدَّثَنَا بِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: "بِكَلِمَةٍ مِنْهُ)، قَالَ: قَوْلُهُ: "كُنْ". فَسَمَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"كَلِمَتَهُ)، لِأَنَّهُ كَانَ عَنْ كَلِمَتِهِ، كَمَا يُقَالُ لِمَا قَدَّرَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ: "هَذَا قَدَرُ اللَّهِ وَقَضَاؤُهُ)، يَعْنِي بِهِ: هَذَا عَنْ قَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ حَدَثَ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [سُورَةَ النِّسَاءِ وسُورَةَ الْأَحْزَابِ: 37]، يَعْنِي بِهِ: مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ الْمَأْمُورُ [بِهِ] الَّذِي كَانَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ اِسْمٌ لِعِيسَى سَمَّاهُ اللَّهُ بِهَا، كَمَا سَمَّى سَائِرَ خَلْقِهِ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَسْمَاءِ. وَرُوِيَ عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (الكَلِمَةُ" هِيَ عِيسَى. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}، قَالَ: عِيسَى هُوَ الْكَلِمَةُ مِنَ اللَّهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَقْرَبُ الْوُجُوهِ إِلَى الصَّوَابِ عِنْدِي، الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَشَّرَتْمَرْيَمَ بِعِيسَى عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِرِسَالَتِهِ وَكَلِمَتِهِ الَّتِي أَمَرَهَا أَنْ تُلْقِيَهَا إِلَيْهَا: أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ مِنْهَا وَلَدًا مِنْ غَيْرِ بَعْلٍ وَلَا فَحْلَ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: "اِسْمُهُ الْمَسِيحُ)، فَذَكَّرَ، وَلَمْ يَقُلْ: "اِسْمَهَا" فَيُؤَنِّثُ، وَ "الكَلِمَةُ" مُؤَنَّثَةٌ، لِأَنَّ "الكَلِمَةَ" غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهَا قَصْدُ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى"فُلَانٍ)، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْبِشَارَةِ، فَذُكِّرَتْ كِنَايَتُهَا كَمَا تُذَكَّرُ كِنَايَةُ "الذَّرِّيَّةِ" وَ "الدَّابَّةِ" وَالْأَلْقَابِ، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَاهُ قَبْلُ فِيمَا مَضَى. فَتَأْوِيلُ ذَلِكَ كَمَا قُلْنَا آنِفًا، مِنْ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِبُشْرَى ثُمَّ بَيَّنَ عَنِ الْبُشْرَى أَنَّهَا وَلَدٌ اِسْمُهُ الْمَسِيحُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا ذَكَّرَ فَقَالَ: "اِسْمُهُ الْمَسِيحُ)، وَقَدْ قَالَ: "بِكَلِمَةٍ مِنْهُ)، وَ "الكَلِمَةُ)، عِنْدَهُ هِيَ عِيسَى لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى كَذَلِكَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا}، ثُمَّ قَالَ {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا} [سُورَةَ الزُّمَرِ: ]، وَكَمَا يُقَالُ: " ذُو الثُّدَيَّةِ)، لِأَنَّ يَدَهُ كَانَتْ قَصِيرَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ ثَدْيَيْهِ، فَجَعَلَهَا كَأَنَّ اِسْمَهَا"ثُدَيَّةٌ)، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ تَدْخُلِ "الهَاءُ" فِي التَّصْغِيرِ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ نَحْوَ قَوْلِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ: فِي أَنَّ "الهَاءَ" مِنْ ذِكْرِ "الكَلِمَةِ)، وَخَالَفَهُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ ذَكَرَ قَوْلَهُ"اِسْمُهُ)، وَ "الكَلِمَةُ)، مُتَقَدِّمَةٌ قَبْلَهُ. فَزَعَمَ أَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ: "اِسْمُهُ)، وَقَدْ قُدِّمَتِ "الكَلِمَةُ)، وَلَمْ يَقُلِ: "اِسْمُهَا)، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ مِنَ النُّعُوتِ وَالْأَلْقَابِ وَالْأَسْمَاءِ الَّتِي لَمْ تُوضَعُ لِتَعْرِيفِ الْمُسَمَّى بِهِ، كَـ"فُلَانٍ" وَ"فُلَانٍ)، وَذَلِكَ، مِثْلُ "الذُّرِّيَّةِ" وَ "الخَلِيفَةِ" وَ "الدَّابَّةِ)، وَلِذَلِكَ جَازَ عِنْدَهُ أَنْ يُقَالَ: "ذَرِّيَّةً طَيِّبَةً" وَ"ذَرِّيَّةً طَيِّبًا)، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: "طِلْحَةُ أَقْبَلَتْ وَمُغِيرَةُ قَامَتْ". وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ اِعْتِلَالَ مَنِ اِعْتَلَّ فِي ذَلِكَ بِـ"ذِي الثُّدَيَّةِ)، وَقَالُوا: إِنَّمَا أُدْخِلَتِ "الهَاءُ" فِي"ذِي الثُّدَيَّةِ)، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِذَلِكَ الْقِطْعَةَ منَ الثَّدْيِ، كَمَا قِيلَ: "كُنَّا فِي لُحْمَةٍ وَنَبِيذَةٍ)، يُرَادُ بِهِ الْقِطْعَةَ مِنْهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ نَحْوَ قَوْلِنَا الَّذِي قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "اِسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ)، فَإِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْبَأَ عِبَادَهُ عَنْ نِسْبَةِ عِيسَى، وَأَنَّهُ اِبْنُ أُمِّهِمَرْيَمَ، وَنَفَى بِذَلِكَ عَنْهُ مَا أَضَافَ إِلَيْهِ الْمُلْحِدُونَ فِي اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنَ النَّصَارَى، مِنْ إِضَافَتِهِمْ بُنُوَّتَهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا قَرَفَتْ أُمَّهُ بِهِ الْمُفْتَرِيَةُ عَلَيْهَا مِنَ الْيَهُودِ، كَمًا:- حَدَّثَنِي بِهِ اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ اِبْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرَ بْنِ الزُّبَيْرِ: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}، أَيْ: هَكَذَا كَانَ أَمْرُهُ، لَا مَا يَقُولُونَ فِيهِ. وَأَمَّا" الْمَسِيحُ)، فَإِنَّهُ"فَعِيلٌ" صُرِفَ مِنْ"مَفْعُولٍ" إِلَى"فَعِيلٍ)، وَإِنَّمَا هُوَ"مَمْسُوحٌ)، يَعْنِي: مَسَحَهُ اللَّهُ فَطَهَّرَهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَلِذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: " الْمَسِيحُ " الصِّدِّيقُ... حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مُسِحَ بِالْبَرَكَةِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ الْبَرْقِيِّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ، قَالَ سَعِيدٌ: إِنَّمَا سُمِّيَ " الْمَسِيحُ)، لِأَنَّهُ مُسِحَ بِالْبَرَكَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [45] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ"وَجِيهًا)، ذَا وَجْهٍ وَمَنْـزِلَةٍ عَالِيَةٍ عِنْدَ اللَّهِ، وَشَرَفٍ وَكَرَامَةٍ. وَمِنْهُ يُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَشْرُفُ وَتُعَظِّمُهُ الْمُلُوكُ وَالنَّاسُ"وَجِيهٌ)، يُقَالُ مِنْهُ: "مَا كَانَ فُلَانٌ وَجِيهًا، وَلَقَدْ وَجُهَ وَجَاهَةً" "وَإِنَّ لَهُ لَوَجْهًا عِنْدَ السُّلْطَانِ وَجَاهًا وَوَجَاهَةً)، وَ "الجَاهُ" مَقْلُوبٌ، قُلِبَتْ، وَاوُهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى مَوْضِعِ الْعَيْنِ مِنْهُ، فَقِيلَ: "جَاهٌ)، وَإِنَّمَا هُوَ"وَجْهٌ)، وَ"فِعْلٌ" مِنَ الْجَاهِ: "جَاهَ يَجُوهُ". مَسْمُوعٌ مِنَ الْعَرَبِ: "أَخَافُ أَنْ يَجُوهُنِي بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا)، بِمَعْنَى: أَنْ يَسْتَقْبِلَنِي فِي وَجْهِي بِأَعْظَمَ مِنْهُ. وَأَمَّا نَصْبُ "الوَجِيهِ)، فَعَلَى الْقَطْعِ مِنْ" عِيسَى)، لِأَنَّ" عِيسَى " مُعَرَّفَةٌ، وَ"وَجِيهٌ" نَكِرَةٌ، وَهُوَ مَنْ نَعْتِهِ. وَلَوْ كَانَ مَخْفُوضًا عَلَى الرَّدِّ عَلَى "الكَلِمَةِ" كَانَ جَائِزًا. وَبِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ: وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ عِنْدَ اللَّهِ قَالَ، فِيمَا بَلَغْنَا، مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ اِبْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: "وَجِيهًا)، قَالَ: وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْأَخَرَةِ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)، فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ مِمَّنْ يُقَرِّبُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُسْكِنُهُ فِي جِوَارِهِ وَيُدْنِيه مِنْهُ، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: "وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)، يَقُولُ: مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلَهُ: "وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)، يَقُولُ: مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [46] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ، وَجِيهًا عِنْدَ اللَّهِ، وَمُكَلِّمًا النَّاسَ فِي الْمَهْدِ. فَـ"يُكَلِّمُ)، وَإِنْ كَانَ مَرْفُوعًا، لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ"يُفْعِّلُ" بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْعَوَامِلِ فِيهِ، فَإِنَّهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ الشَّاعِرِ: بِـتُّ أُعَشِّـيهَا بِعَضْـبٍ بَـاتِرِ *** يَقْصِـدُ فِـي أَسْـوُقِهَا وَجَـائِرِ وَأَمَّا "المَهْدُ)، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: مَضْجَعُ الصَّبِيِّ فِي رَضَاعِهِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ}، قَالَ: مَضْجَعِ الصَّبِيِّ فِي رَضَاعِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَكَهْلًا)، فَإِنَّهُ: وَمُحْتَنِكًا فَوْقَ الْغُلُومَةِ، وَدُونَ الشَّيْخُوخَةِ، يُقَالُ مِنْهُ: "رَجُلٌ كَهْلٌ وَاِمْرَأَةٌ كَهْلَةٌ)، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: وَلَا أَعُـودُ بَعْدَهَـا كَرِيَّـا *** أُمَـارِسُ الكَهْلَـةَ وَالصَّبِيَّـا وَإِنَّمَا عَنَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا}، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ طِفْلًا فِي الْمَهْدِ دَلَالَةٌ عَلَى بَرَاءَةِ أُمِّهِ مِمَّا قَرَفَهَا بِهِ الْمُفْتَرُونَ عَلَيْهَا، وَحَجَّةٌ لَهُ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَبَالِغًا كَبِيرًا بَعْدَ اِحْتِنَاكِهِ، بِوَحْيِ اللَّهِ الَّذِي يُوحِيهِ إِلَيْهِ، وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَمَا يَنْـزِلُ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابِهِ. وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ بِذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الْمَسِيحِ، وَأَنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ كُهُولًا وَشُيُوخًا اِحْتِجَاجًا بِهِ عَلَى الْقَائِلِينَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ مِنَ النَّصَارَى الْبَاطِلَ، وَأَنَّهُ كَانَ [مُنْذُ أَنْشَأَهُ] مَوْلُودًا طِفْلًا ثُمَّ كَهْلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْأَحْدَاثِ، وَيَتَغَيَّرُ بِمُرُورِ الْأَزْمِنَةِ عَلَيْهِ وَالْأَيَّامِ، مِنْ صِغَرٍ إِلَى كِبَرٍ، وَمِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ، كَمَا قَالَ الْمُلْحِدُونَ فِيهِ، كَانَ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِ. فَكَذَّبَ بِذَلِكَ مَا قَالَهُ الْوَفْدُ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ الَّذِينَ حَاجُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وَاحْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ كَانَ كَسَائِرِ بَنِي آدَمَ، إِلَّا مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ الَّتِي أَبَانَهُ بِهَا مِنْهُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ اِبْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} ": يُخْبِرُهُمْ بِحَالَاتِهِ الَّتِي يَتَقَلَّبُ بِهَا فِي عُمْرِهِ، كَتَقَلُّبِ بَنِي آدَمَ فِي أَعْمَارِهِمْ صِغَارًا وَكِبَارًا، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ خَصَّهُ بِالْكَلَامِ فِي مَهْدِهِ آيَةً لِنُبُوَّتِهِ، وَتَعْرِيفًا لِلْعِبَادِ مَوَاقِعَ قُدْرَتِهِ. حَدَّثَنَا بَشَرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ}، يَقُولُ: يُكَلِّمُهُمْ صَغِيرًا وَكَبِيرًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا}، قَالَ: يُكَلِّمُهُمْ صَغِيرًا وَكَبِيرًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ}، قَالَ: الْكَهْلُ الْحَلِيمُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: كَلَّمَهُمْ صَغِيرًا وَكَبِيرًا وَكَهْلً وَقَالَ اِبْنُ جُرَيْجٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَهْلُ الْحَلِيمُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا}، قَالَ: كَلَّمَهُمْ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، وَكَلَّمَهُمْ كَبِيرًا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "وَكَهْلًا)، أَنَّهُ سَيُكَلِّمُهُمْ إِذَا ظَهَرَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ، سَمِعْتُهُ- يَعْنِي اِبْنَ زَيْدٍ- يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا}، قَالَ: قَدْ كَلَّمَهُمْ عِيسَى فِي الْمَهْدِ، وَسَيُكَلِّمُهُمْ إِذَا قَتَلَ الدَّجَّالَ، وَهُوَ يَوْمئِذٍ كَهْلٌ. وَنَصْبُ"كَهْلًا)، عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ"وَيُكَلِّمُ النَّاسَ". وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَمِنَ الصَّالِحِينَ)، فَإِنَّهُ يَعْنِي: مِنْ عِدَادِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ، لِأَنَّ أَهْلَ الصَّلَاحِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الدِّينِ وَالْفَضْلِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [47] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، قَالَتْمَرْيَمُ إِذْ قَالَتْ لَهَا الْمَلَائِكَةُ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ}، مِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ لِي وَلَدٌ؟ أَمِنْ قِبَلِ زَوْجٍ أَتَزَوَّجُهُ وَبَعْلٍ أَنْكِحُهُ، أَمْ تَبْتَدِئُ فِيَّ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ بَعْلٍ وَلَا فَحْلٍ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّنِي بِشْرٌ؟ فَقَالَ اللَّهُ لَهَا {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، يَعْنِي: هَكَذَا يَخْلُقُ اللَّهُ مِنْكِ وَلَدًا لَكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّكِ بِشْرٌ، فَيَجْعَلُهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَعِبْرَةً، فَإِنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَصْنَعُ مَا يُرِيدُ، فَيُعْطِي الْوَلَدَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ وَمِنْ فَحْلٍ، وَيَحْرِمُ ذَلِكَ مَنْ يَشَاءُ مِنَ النِّسَاءِ وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ بَعْلٍ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ خَلْقُ شَيْءٍ أَرَادَ خَلْقَهُ، إِنَّمَا هُوَ أَنْ يَأْمُرَ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا مَا أَرَادَ [خَلْقَهُ] فَيَقُولُ لَهُ: (كُنْ فَيَكُونُ" مَا شَاءَ، مِمَّا يَشَاءُ، وَكَيْفَ شَاءَ، كَمَا:- حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ اِبْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، يَصْنَعُ مَا أَرَادَ، وَيَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، مِنْ بَشَرٍ أَوْ غَيْرِ بَشَرٍ "إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ)، مِمَّا يَشَاءُ وَكَيْفَ يَشَاءُ "فَيَكُونُ" مَا أَرَادَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [48] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اِخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ وَبَعْضُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ: (وَيُعَلِّمُهُ) بِالْيَاءِ، رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، "وَيَعْلَمُهُ الْكِتَابَ)، فَأَلْحَقُوا الْخَبَرَ فِي قَوْلِهِ: "وَيُعَلِّمُهُ)، بِنَظِيرِ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: "يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)، وَقَوْلِهِ: "فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ". وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: (وَنُعَلِّمُهُ) بِالنُّونِ، عَطْفًا بِهِ عَلَى قَوْلِهِ: "نُوحِيهِ إِلَيْكَ)، كَأَنَّهُ قَالَ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} " {وَنُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ}. وَقَالُوا: مَا بَعْدَ"نُوحِيهِ" فِي صِلَتِهِ إِلَى قَوْلِهِ: "كُنْ فَيَكُونُ)، ثُمَّ عَطَفَ بِقَوْلِهِ: "وَنَعْلَمُهُ" عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، غَيْرُ مُخْتَلِفَتَيْ الْمَعَانِي، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَهُوَ مُصِيبُ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، لِاتِّفَاقِ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ، فِي أَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ يُعَلِّمُ عِيسَى الْكِتَابَ، وَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْلَمُهُ. وَهَذَا اِبْتِدَاءُ خَبَرٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّلِمَرْيَمَمَا هُوَ فَاعِلٌ بِالْوَلَدِ الَّذِي بَشَّرَهَا بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَرِفْعَةِ الْمَنْـزِلَةِ وَالْفَضِيلَةِ، فَقَالَ: كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مِنْكَ وَلَدًا، مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ وَلَا بَعْلٍ، فَيُعْلِمُهُ الْكِتَابَ، وَهُوَ الْخَطُّ الَّذِي يَخُطُّهُ بِيَدِهِ وَالْحِكْمَةَ، وَهِيَ السُّنَّةُ الَّتِي يُوحِيهَا إِلَيْهِ فِي غَيْرِ كِتَابٍ وَالتَّوْرَاةَ، وَهِيَ التَّوْرَاةُ الَّتِي أُنْـزِلَتْ عَلَى مُوسَى، كَانَتْ فِيهِمْ مِنْ عَهْدِ مُوسَى وَالْإِنْجِيلَ، إِنْجِيلَ عِيسَى وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ مَرْيَمَ قَبْلَ خَلْقِ عِيسَى أَنَّهُ مُوحِيهِ إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا أَخْبَرَهَا بِذَلِكَ فَسَمَّاهُ لَهَا، لِأَنَّهَا قَدْ كَانَتْ عَلِمَتْ فِيمَا نَـزَلَ مِنَ الْكُتُبِ أَنَّ اللَّهَ بَاعِثٌ نَبِيًّا، يُوحَى إِلَيْهِ كِتَابًا اِسْمُهُ الْإِنْجِيلُ، فَأَخْبَرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي سَمِعْتِ بِصِفَتِهِ الَّذِي وَعَدَ أَنْبِيَاءَهُ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ مُنَـزِّلٌ عَلَيْهِ الْكِتَابَ الَّذِي يُسَمَّى إِنْجِيلًا هُوَ الْوَلَدُ الَّذِي وَهَبَهُ لَهَا وَبَشَّرَهَا بِهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ اِبْنُ جُرَيْجٍ: "وَنَعْلَمُهُ الْكِتَابَ)، قَالَ: بِيَدِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَنَعْلَمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، قَالَ: الْحِكْمَةُ السُّنَّةُ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَنَعْلَمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}، قَالَ: (الحِكْمَةُ" السُّنَّةُ "وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ)، قَالَ: كَانَ عِيسَى يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ: {وَنَعْلَمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ"}، قَالَ: الْحِكْمَةُ السُّنَّةُ. حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ اِبْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَخْبَرَهَا- يَعْنِي أَخْبَرَ اللَّهُمَرْيَمَ- مَا يُرِيدُ بِهِ فَقَالَ: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ} " الَّتِي كَانَتْ فِيهِمْ مِنْ عَهْدِ مُوسَى "وَالْإِنْجِيلَ)، كِتَابًا آخَرَ أُحْدِثُهُ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عِلْمُهُ، إِلَّا ذِكْرُهُ أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "وَرَسُولًا)، وَنَجْعَلُهُ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَرَكَ ذِكْرَ"وَنَجْعَلُهُ" لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَرَأَيْـتِ زَوْجَـكِ فِـي الـوَغَى *** مُتَقَلِّـدًا سَـيْفًا وَرُمْحَـا وَقَوْله: "أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، يَعْنِي: وَنَجْعَلُهُ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنَّهُ نَبِيِّي وَبَشِيرِي وَنَذِيرِي وَحُجَّتِي عَلَى صِدْقِي فِي ذَلِكَ: "أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، يَعْنِي: بِعَلَّامَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ تُحَقِّقُ قَوْلِي، وَتَصَدُّقُ خَبَرِي أَنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّكُمْ إِلَيْكُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ اِبْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، أَيْ: يُحَقِّقُ بِهَا نُبُوَّتِي، أَنِّي رَسُولٌ مِنْهُ إِلَيْكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، ثُمَّ بَيَّنَ عَنِ الْآيَةِ مَا هِيَ، فَقَالَ: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ}. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، بِأَنْ أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ. "وَالطَّيْرُ" جَمْعُ"طَائِرٍ". وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ: (كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا)، عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَهُ آخَرُونَ: {كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا}، عَلَى الْجِمَاعِ فِيهِمَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَعْجَبُ الْقِرَاءَاتِ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: "كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا، عَلَى الْجِمَاعِ فِيهِمَا جَمِيعًا، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ صِفَةِ عِيسَى أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ. وَاتِّبَاعُ خَطِّ الْمُصْحَفِ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى وَاسْتِفَاضَةِ الْقِرَاءَةِ بِهِ، أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنْ خِلَافِ الْمُصْحَفِ. وَكَانَ خَلْقُ عِيسَى مَا كَانَ يَخْلُقُ مِنَ الطَّيْرِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ جَلَسَ يَوْمًا مَعَ غِلْمَانٍ مِنَ الْكُتَّابِ، فَأَخَذَ طِينًا، ثُمَّ قَالَ: أَجْعَلُ لَكُمْ مِنْ هَذَا الطِّينِ طَائِرًا؟ قَالُوا: وَتَسْتَطِيعُ ذَلِكَ! قَالَ: نَعَمْ! بِإِذْنِ رَبِّي. ثُمَّ هَيَّأَهُ، حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ فِي هَيْئَةِ الطَّائِرِ نَفَخَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: "كُنْ طَائِرًا بِإِذْنِ اللَّهِ)، فَخَرَجَ يَطِيرُ بَيْنَ كَفَّيْهِ. فَخَرَجَ الْغِلْمَانُ بِذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ، فَذَكَرُوهُ لِمُعَلِّمِهِمْ، فَأَفْشَوْهُ فِي النَّاسِ. وَتَرَعْرَعَ، فَهَمَّتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا خَافَتْ أُمُّهُ عَلَيْهِ حَمَلَتْهُ عَلَى حُمَيْرٍ لَهَا، ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ هَارِبَةً. وَذُكِرَ أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الطَّيْرَ مِنَ الطِّينِ سَأَلَهُمْ: أَيُّ الطَّيْرِ أَشَدُّ خَلْقًا؟ فَقِيلَ لَهُ: الْخُفَّاشُ، كَمَا:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَوْلُهُ: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}، قَالَ: أَيُّ الطَّيْرِ أَشَدُّ خَلْقًا؟ قَالُوا: الْخُفَّاشُ، إِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ. قَالَ فَفَعَلَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: "فَأَنْفُخُ فِيهِ)، وَقَدْ قِيلَ: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} "؟ قِيلَ: لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: فَأَنْفُخُ فِي الطَّيْرِ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ: "فَأَنْفُخُ فِيهَا". كَانَ صَحِيحًا جَائِزًا، كَمَا قَالَ فِي الْمَائِدَةِ، {فَتَنْفُخُ فِيهَا} [سُورَةَ الْمَائِدَةِ: 110]: يُرِيدُ: فَتَنْفُخُ فِي الْهَيْئَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ: "فَأَنْفُخُهَا)، بِغَيْرِ"فِي". وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ مِثْلَ ذَلِكَ فَتَقُولُ: "رُبَّ لَيْلَةٍ قَدْ بِتُّهَا، وَبِتُّ فِيهَا)، قَالَ الشَّاعِرُ: مَـا شُـقَّ جَـيْبٌ وَلَا قَـامَتْكَ نَائِحَـةٌ *** وَلَا بَكَـتْكَ جِيَـادٌ عِنْـدَ أَسْـلَابِ بِمَعْنَى: وَلَا قَامَتْ عَلَيْكَ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: إحْـدَى بَنِـي عَيِّـذِ اللَّـهَ اسْـتَمَرَّ بِهَا *** حُـلْوُ العُصَـارَةِ حَـتَّى يُنْفَـخَ الصُّورُ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "وَأُبْرِئُ)، وَأَشْفِي. يُقَالُ مِنْهُ: "أَبْرَأَ اللَّهُ الْمَرِيضَ)، إِذَا شَفَاهُ مِنْهُ، "فَهُوَ يُبْرِئُهُ إِبْرَاءً)، وَ"بَرَأَ الْمَرِيضُ فَهُوَ يَبْرَأُ بُرْءًا)، وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا: "بَرِئَ الْمَرِيضُ فَهُوَ يَبْرَأُ)، لُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى "الأَكْمَهِ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الَّذِي لَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ، وَيُبْصِرُ بِالنَّهَارِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ}، قَالَ: الْأَكْمَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ، فَهُوَ يَتَكَمَّهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْأَعْمَى الَّذِي وَلَدَتْهُ أُمُّهُ كَذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنْ "الأَكْمَهَ)، الَّذِي وُلِدَ وَهُوَ أَعْمَى مَغْمُومُ الْعَيْنَيْنِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ}، قَالَ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ الْأَكْمَهَ الَّذِي يُولَدُ وَهُوَ أَعْمَى، مَضْمُومُ الْعَيْنَيْنِ. حُدِّثْتُ عَنِالْمِنْجَابِ قَالَ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأَكْمَهُ، الَّذِي يُولَدُ وَهُوَ أَعْمَى. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ الْأَعْمَى.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيُّ: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ}، هُوَ الْأَعْمَى. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: الْأَعْمَى. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ}، قَالَ: الْأَكْمَهُ الْأَعْمَى. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عِبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ}، قَالَ: الْأَعْمَى. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْأَعْمَشُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ}، قَالَ: الْأَعْمَشُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ مَعْنَى "الكَمَهِ)، الْعَمَى، يُقَالُ مِنْهُ: "كَمِهَتْ عَيْنُهُ فَهِيَ تَكْمَهُ كَمْهًا، وَأَكْمَهْتُهَا أَنَا" إِذَا أَعْمَيْتُهَا، كَمَا قَالَ سُوِيدُ بْنُ أَبِي كَاهِلٍ: كَـمَهْتُ عَيْنَيْـهِ حَـتَّى ابْيَضَّتَـا *** فَهْـوَ يَلْحَـى نَفْسَـهُ لَمَّـا نَـزَعْ وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ: هَرَجْـتُ فَـارْتَدَّ ارْتِـدَادَ الأكْمَـهِ *** فِـي غَـائِلَاتِ الْحَـائِرِ المُتَهْتِـهِ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، اِحْتِجَاجًا مِنْهُ بِهَذِهِ الْعِبَرِ وَالْآيَاتِ عَلَيْهِمْ فِي نُبُوَّتِهِ، وَذَلِكَ أَنْ: الْكَمَهُ وَالْبَرَصَ لَا عِلَاجَ لَهُمَا، فَيَقْدِرَ عَلَى إِبْرَائِهِ ذُو طِبٍّ بِعِلَاجٍ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَدِلَّتِهِ عَلَى صِدْقِ قِيلِهِ: إِنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ، لِأَنَّهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، مَعَ سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا دَلَالَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ. فَأَمَّا مَا قَالَ عِكْرِمَةُ مِنْ أَنَّ "الكَمَهَ)، الْعَمَشُ، وَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ: مِنْ أَنَّهُ سُوءُ الْبَصَرِ بِاللَّيْلِ، فَلَا مَعْنَى لَهُمَا. لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَحْتَجُّ عَلَى خَلْقِهِ بِحُجَّةٍ تَكَوُنُ لَهُمُ السَّبِيلُ إِلَى مُعَارَضَتِهِ فِيهَا، وَلَوْ كَانَ مِمَّا اِحْتَجَّ بِهِ عِيسَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي نُبُوَّتِهِ، أَنَّهُ يُبْرِئُ الْأَعْمَشَ، أَوِ الَّذِي يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ، لَقَدَرُوا عَلَى مُعَارَضَتِهِ بِأَنْ يَقُولُوا: "وَمَا فِي هَذَا لَكَ مِنَ الْحُجَّةِ، وَفِينَا خَلْقٌ مِمَّنْ يُعَالِجُ ذَلِكَ، وَلَيْسُوا لِلَّهِ أَنْبِيَاءَ وَلَا رُسُلًا فَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ بَيِّنَةٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا، مِنْ أَنَّ "الأَكْمَهَ)، هُوَ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ شَيْئًا لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا. وَهُوَ بِمَا قَالَ قَتَادَةُ:- مِنْ أَنَّهُ الْمَوْلُودُ كَذَلِكَ- أَشْبَهُ، لِأَنَّ عِلَاجَ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِثْلَ الَّذِي أَعْطَى عِيسَى، وَكَذَلِكَ عِلَاجُ الْأَبْرَصِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانَ إِحْيَاءُ عِيسَى الْمَوْتَى بِدُعَاءِ اللَّهِ، يَدْعُو لَهُمْ، فَيَسْتَجِيبُ لَهُ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُغَفَّلٍ: أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: لَمَّا صَارَ عِيسَى اِبْنُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةً سَنَةً، أَوْحَى اللَّهُ إِلَى أُمِّهِ وَهِيَ بِأَرْضِ مِصْرَ، وَكَانَتْ هَرَبَتْ مِنْ قَوْمِهَا حِينَ وَلَدَتْهُ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ: أَنِ اطْلَعِي بِهِ إِلَى الشَّامِ. فَفَعَلَتِ الَّذِي أُمِرَتْ بِهِ. فَلَمْ تَزَلْ بِالشَّامِ حَتَّى كَانَ اِبْنَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ نُبُوَّتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ قَالَ: وَزَعَمَ وَهْبٌ أَنَّهُ رُبَّمَا اِجْتَمَعَ عَلَى عِيسَى مِنَ الْمَرْضَى فِي الْجَمَاعَةِ الْوَاحِدَةِ خَمْسُونَ أَلْفًا، مَنْ أَطَاقَ مِنْهُمْ أَنْ يَبْلُغَهُ بَلَغَهُ، وَمَنْ لَمْ يُطِقْ مِنْهُمْ ذَلِكَ أَتَاهُ عِيسَى يَمْشِي إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُدَاوِيهِمْ بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَأُخْبِرُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ، مِمَّا لَمْ أُعَايِنُهُ وَأُشَاهِدُهُ مَعَكُمْ فِي وَقْتِ أَكْلِكُمُوهُ "وَمَا تَدَّخِرُونَ)، يَعْنِي بِذَلِكَ: وَمَا تَرْفَعُونَهُ فَتَخْبَأُونَهُ وَلَا تَأْكُلُونَهُ. يُعْلِمُهُمْ أَنَّ مِنْ حُجَّتِهِ أَيْضًا عَلَى نُبُوَّتِهِ مَعَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا حُجَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ: مِنْ خَلْقِ الطَّيْرِ مِنَ الطِّينِ، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، الَّتِي لَا يُطِيقُهَا أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ، إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَمًا لَهُ عَلَى صِدْقِهِ، وَآيَةً لَهُ عَلَى حَقِيقَةِ قَوْلِهِ، مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْ خَلْقِهِ إِنْبَاءَهُ الْغَيْبَ الَّذِي لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ الَّذِينَ سَبِيلُهُمْ سَبِيلُهُ، عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا كَانَ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ: "وَأُنْبِئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ" مِنَ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى صِدْقِهِ، وَقَدْ رَأَيْنَا الْمُتَنَجِّمَةَ وَالْمُتَكَهِّنَةَ تُخْبِرُ بِذَلِكَ كَثِيرًا فَتُصِيبُ؟ قِيلَ: إِنَّ الْمُتَنَجِّمَ وَالْمُتَكَهِّنَ مَعْلُومٌ مِنْهُمَا عِنْدَ مَنْ يُخْبِرَانِهِ بِذَلِكَ، أَنَّهُمَا يُنَبِّئَانِ بِهِ عَنِ اِسْتِخْرَاجٍ لَهُ بِبَعْضِ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى عِلْمِهِ. وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ مِنْ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمِنْ سَائِرِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ عِيسَى يُخْبِرُ بِهِ عَنْ غَيْرِ اِسْتِخْرَاجٍ، وَلَا طَلَبٍ لِمَعْرِفَتِهِ بِاحْتِيَالٍ، وَلَكِنْ اِبْتِدَاءً بِإِعْلَامِ اللَّهِ إِيَّاهُ، مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ تَقَدَّمَ ذَلِكَ اِحْتَذَاهُ، أَوْ بَنَى عَلَيْهِ، أَوْ فَزِعَ إِلَيْهِ، كَمَا يَفْزَعُ الْمُتَنَجِّم إِلَى حِسَابِهِ، وَالْمُتَكَهِّنُ إِلَى رَئِيِّهِ. فَذَلِكَ هُوَالْفَصْلُ بَيْنَ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْغُيُوبِ وَإِخْبَارِهِمْ عَنْهَا، وَبَيْنَ عِلْمِ سَائِرِ الْمُتَكَذِّبَةِ عَلَى اللَّهِ، أَوْ الْمُدَّعِيَةِ عِلْمَ ذَلِكَ، كَمَا:- حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ اِبْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ عِيسَى تِسْعَ سِنِينَ أَوْ عَشْرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَدْخَلَتْهُ أُمُّهُ الْكُتَّابَ، فِيمَا يَزْعُمُونَ. فَكَانَ عِنْدَ رَجُلٍ مِنَ الْمَكْتَبِيِّينَ يُعَلِّمُهُ كَمَا يُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ، فَلَا يَذْهَبُ يُعَلِّمُهُ شَيْئًا مِمَّا يُعَلِّمُهُ الْغِلْمَانَ إِلَّا بَدَرَهُ إِلَى عِلْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُعَلِّمَهُ إِيَّاهُ، فَيَقُولُ: أَلَا تَعْجَبُونَ لِابْنِ هَذِهِ الْأَرْمَلَةِ، مَا أَذْهَبَ أُعَلِّمُهُ شَيْئًا إِلَّا وَجَدْتُهُ أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي ! ! حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: لَمَّا كَبُرَ عِيسَى أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ يَتَعَلَّمُ التَّوْرَاةَ، فَكَانَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ غِلْمَانِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، فَيُحَدِّثُ الْغِلْمَانَ بِمَا يَصْنَعُ آبَاؤُهُمْ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}، قَالَ: كَانَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ، إِذْ كَانَ فِي الْكُتَّابِ، يُخْبِرُهُمْ بِمَا يَأْكُلُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَمَا يَدَّخِرُونَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ قَالَ، سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}، قَالَ: إِنَّ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ كَانَ يَقُولُ لِلْغُلَامِ فِي الْكُتَّابِ: (يَا فُلَانُ، إِنَّ أَهْلَكَ قَدْ خَبَّأُوا لَكَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الطَّعَامِ، فَتُطْعِمُنِي مِنْهُ "؟ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَهَكَذَا فِعْلُ الْأَنْبِيَاءِ وَحُجَجُهَا، إِنَّمَا تَأْتِي بِمَا أَتَتْ بِهِ مِنَ الْحُجَجِ بِمَا قَدْ يُوصَلُ إِلَيْهِ بِبَعْضِ الْحِيَلِ، عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ غَيْرُهَا، بَلْ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَعْلَمُ الْخَلْقُ أَنَّهُ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ بِحِيلَةٍ إِلَّا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} " قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}، قَالَ: بِمَا أَكَلْتُمُ الْبَارِحَةَ، وَمَا خَبَّأْتُمْ مِنْهُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يَقُولُهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ- يَعْنِي قَوْلَهُ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} "- قَالَ: الطَّعَامُ وَالشَّيْءُ يَدَّخِرُونَهُ فِي بُيُوتِهِمْ، غَيْبًا عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}، قَالَ: "مَا تَأْكُلُونَ)، مَا أَكَلْتُمْ الْبَارِحَةَ مِنْ طَعَامٍ، وَمَا خَبَّأْتُمْ مِنْهُ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ- يَعْنِي عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ- يُحَدِّثُ الْغِلْمَانُ وَهُوَ مَعَهُمْ فِي الْكُتَّابِ بِمَا يَصْنَعُ آبَاؤُهُمْ، وَبِمَا يَرْفَعُونَ لَهُمْ، وَبِمَا يَأْكُلُونَ. وَيَقُولُ لِلْغُلَامِ: (اِنْطَلِقْ، فَقَدْ رَفَعَ لَكَ أَهْلُكَ كَذَا وَكَذَا، وَهُمْ يَأْكُلُونَ كَذَا وَكَذَا)، فَيَنْطَلِقُ الصَّبِيُّ فَيَبْكِي عَلَى أَهْلِهِ حَتَّى يُعْطُوهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ. فَيَقُولُونَ لَهُ: مَنْ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ فَيَقُولُ: عِيسَى ! فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَأُنْبِئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ" فَحَبَسُوا صِبْيَانَهُمْ عَنْهُ، وَقَالُوا: لَا تَلْعَبُوا مَعَ هَذَا السَّاحِرِ! فَجَمَعُوهُمْ فِي بَيْتٍ، فَجَاءَ عِيسَى يَطْلُبُهُمْ، فَقَالُوا: لَيْسَ هُمْ هَاهُنَا، فَقَالَ: مَا فِي هَذَا الْبَيْتِ؟ فَقَالُوا: خَنَازِيرُ. قَالَ عِيسَى: كَذَلِكَ يَكُونُونَ! فَفَتَحُوا عَنْهُمْ، فَإِذَا هُمْ خَنَازِيرُ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ} [سُورَةَ الْمَائِدَةِ: 78]. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}، قَالَ: مَا تَخْبَأُونَ مَخَافَةَ الَّذِي يُمْسِكُ أَنْ يُخَلِّفَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}، مَا تَأْكُلُونَ مِنَ الْمَائِدَةِ الَّتِي تَنْـزِلُ عَلَيْكُمْ، وَمَا تَدَّخِرُونَ مِنْهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}، فَكَانَ الْقَوْمُ لِمَا سَأَلُوا الْمَائِدَةَ فَكَانَتْ خِوَانًا يَنْـزِلُ عَلَيْهِ أَيْنَمَا كَانُوا ثَمَرًا مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَأَمَرَ الْقَوْمَ أَنْ لَا يَخُونُوا فِيهِ وَلَا يَخْبَأُوا وَلَا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ، بَلَاءً اِبْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهِ. فَكَانُوا إِذَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا أَنْبَأَهُمْ بِهِ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ، فَقَالَ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ}، قَالَ: أُنْبِئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ مِنَ الْمَائِدَةِ وَمَا تَدَّخِرُونَ مِنْهَا. قَالَ: فَكَانَ أَخَذَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَائِدَةِ حِيَنَ نَـزَلَتْ: أَنْ يَأْكُلُوا وَلَا يَدَّخِرُوا، فَادَّخَرُوا وَخَانُوا، فَجُعِلُوا خَنَازِيرَ حِينَ اِدَّخَرُوا وَخَانُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدٌ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [سُورَةَ الْمَائِدَةِ: 115]. قَالَ اِبْنُ يَحْيَى قَالَ، عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرَ، ذَلِكَ. وَأَصْلُ"يَدَّخِرُونَ" مِنَ "الْفِعْلِ)، "يَفْتَعِلُونَ" مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "ذَخِرْتُ الشَّيْءَ" بِالذَّالِ، "فَأَنَا أَذَّخِرُهُ". ثُمَّ قِيلَ: "يَدَّخِرُ)، كَمَا قِيلَ: "يدَّكِرُ" مِنْ: "ذَكَرْتُ الشَّيْءَ)، يُرَادُ بِهِ"يَذْتَخِرُ". فَلَمَّا اِجْتَمَعَتِ "الذَّالُ" وَ "التَّاءُ" وَهُمَا مُتَقَارِبَتَا الْمَخْرَجِ، ثَقُلَ إِظْهَارُهُمَا عَلَى اللِّسَانِ، فَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، وَصُيِّرَتَا"دَالًا" مُشَدَّدَةً، صَيَّرُوهَا عَدْلًا بَيْنَ "الذَّالِ" وَ "التَّاءِ". وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُغَلِّبُ "الذَّالَ" عَلَى "التَّاءِ)، فَيُدْغِمُ "التَّاءَ" فِي "الذَّالِ)، فَيَقُولُ: وَمَا تَذَّخِرُونَ)، "وَهُوَ مُذَّخَرٌ لَكَ)، "وَهُوَ مُذَّكِّرٌ". وَاللُّغَةُ الَّتِي بِهَا الْقِرَاءَةُ، الْأَوْلَى، وَذَلِكَ إِدْغَامُ "الذَّالِ" فِي "التَّاءِ)، وَإِبْدَالُهُمَا "دَالًا" مُشَدَّدَةً. لَا يَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِهَا، لِتُظَاهُرِ النَّقْلِ مِنَ الْقَرَأَةِ بِهَا، وَهِيَ اللُّغَةُ الْجُودَى، كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ: إِنَّ الكَـرِيمَ الَّـذِي يُعْطِيـكَ نَائِلَـهُ *** عَفْـوًا، وَيَظْلِـمُ أَحْيَانًـا فَيُظَّلَـمُ يُرْوَى"بِالظَّاءِ)، يُرِيدُ: "فَيُفْتَعَلُ" مِنَ "الظُّلْمِ)، وَيُرْوَى"بِالطَّاءِ" أَيْضًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [49] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ فِي خَلْقِي مِنَ الطِّينِ الطَّيْرَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَفِي إِبْرَائِي الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَإِحْيَائِي الْمَوْتَى، وَإِنْبَائِي إِيَّاكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ، اِبْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ وَتَنْجِيمٍ، وَلَا كِهَانَةٍ وَعِرَافَةٍ لَعِبْرَةً لَكُمْ وَمُتَفَكَّرًا، تَتَفَكَّرُونَ فِي ذَلِكَ فَتَعْتَبِرُونَ بِهِ أَنِّي مُحِقٌّ فِي قَوْلِي لَكُمْ: "إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّكُمْ إِلَيْكُمْ)، وَتَعْلَمُونَ بِهِ أَنِّي فِيمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ صَادِقٌ "إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)، يَعْنِي: إِنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ حُجَجَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، مُقِرِّينَ بِتَوْحِيدِهِ، وَبِنَبِيِّهِ مُوسَى وَالتَّوْرَاةِ الَّتِي جَاءَكُمْ بِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَبِأَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَجِئْتُكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلِذَلِكَ نَصَبَ"مُصَدِّقًا" عَلَى الْحَالِ مَنْ"جِئْتُكُمْ". وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى قَوْلِهِ: "وَجِئْتُكُمْ)، دُونَ الْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: "وَجِيهًا)، قَوْلُهُ: "لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ". وَلَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ"وَجِيهًا)، لَكَانَ الْكَلَامُ: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلِيُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ. وَإِنَّمَا قِيلَ: "وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)، لِأَنَّ عِيسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَانَ مُؤْمِنًا بِالتَّوْرَاةِ مُقِرًّا بِهَا، وَأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَالْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ، يُصَدِّقُونَ بِكُلِّ مَا كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَإِنِ اِخْتَلَفَ بَعْضُ شَرَائِعِ أَحْكَامِهِمْ، لِمُخَالَفَةِ اللَّهِ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ. مَعَ أَنَّ عِيسَى كَانَ- فِيمَا بَلَغَنَا- عَامِلًا بِالتَّوْرَاةِ لَمْ يُخَالِفْ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِهَا، إِلَّا مَا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ أَهْلِهَا فِي الْإِنْجِيلِ، مِمَّا كَانَ مُشَدَّدًا عَلَيْهِمْ فِيهَا، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ قَالَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ: أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ يَقُولُ: إِنَّ عِيسَى كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَسْبِتُ، وَيَسْتَقْبِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنِّي لَمْ أَدْعُكُمْ إِلَى خِلَافِ حَرْفٍ مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ، إِلَّا لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، وَأَضَعُ عَنْكُمْ مِنَ الْآصَارِ. حَدَّثَنِي بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، كَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى أَلْيَنُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَكَانَ قَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِيمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى لُحُومُ الْإِبِلِ وَالثُّرُوبُ، وَأَشْيَاءٌ مِنَ الطَّيْرِ وَالْحَيَّتَانِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، قَالَ: كَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى أَلْيَنُ مِنَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى. قَالَ: وَكَانَ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِيمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ التَّوْرَاةِ، لُحُومُ الْإِبِلِ وَالثُّرُوبُ، فَأَحَلَّهَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ عِيسَى- وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ، وَأُحِلَّتْ لَهُمْ فِيمَا جَاءَ بِهِ عِيسَى- وَفِي أَشْيَاءَ مِنَ السَّمَكِ، وَفِي أَشْيَاءَ مِنَ الطَّيْرِ مِمَّا لَا صَيْصِيَّةَ لَهُ، وَفِي أَشْيَاءَ حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ، وَشَدَّدَهَا عَلَيْهِمْ، فَجَاءَهُمْ عِيسَى بِالتَّخْفِيفِ مِنْهُ فِي الْإِنْجِيلِ، فَكَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى أَلْيَنُ مِنَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَوْلَهُ: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، قَالَ: لُحُومُ الْإِبِلِ وَالشُّحُومِ. لَمَّا بُعِثَ عِيسَى أَحَلَّهَا لَهُمْ، وَبُعِثَ إِلَى الْيَهُودِ فَاخْتَلَفُوا وَتَفَرَّقُوا. حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ اِبْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ}، أَيْ: لِمَا سَبَقَنِي مِنْهَا-"وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)، أَيْ: أَخْبَرَكُمْ أَنَّهُ كَانَ حَرَامًا عَلَيْكُمْ فَتَرَكْتُمُوهُ، ثُمَّ أُحِلَّهُ لَكُمْ تَخْفِيفًا عَنْكُمْ، فَتُصِيبُونَ يُسْرَهُ، وَتَخْرُجُونَ مِنْ تَبَاعَتِهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، قَالَ: كَانَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءَ، فَجَاءَهُمْ عِيسَى لِيُحِلَّ لَهُمُ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ شُكْرَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ: وَجِئْتُكُمْ بِحُجَّةٍ وَعِبْرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، تَعْلَمُونَ بِهَا حَقِيقَةَ مَا أَقُولُ لَكُمْ. كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، قَالَ: مَا بَيَّنَ لَهُمْ عِيسَى مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَمَا أَعْطَاهُ رَبُّهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، مَا بَيَّنَ لَهُمْ عِيسَى مِنَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: "مِنْ رَبِّكُمْ)، مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [50- 51]) قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ تَعْلَمُونَ بِهَا يَقِينًا صِدْقِي فِيمَا أَقُولُ "فَاتَّقُوا اللَّهَ)، يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَنْـزَلَهُ عَلَى مُوسَى، فَأَوْفَوْا بِعَهْدِهِ الَّذِي عَاهَدْتُمُوهُ فِيهِ "وَأَطِيعُونِ)، فِيمَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَصْدِيقِي فِيمَا أَرْسَلَنِي بِهِ إِلَيْكُمْ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، فَاعْبُدُوهُ، فَإِنَّهُ بِذَلِكَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ، وَبِإِحْلَالِ بَعْضِ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِكُمْ، وَذَلِكَ هُوَ الطَّرِيقُ الْقَوِيمُ، وَالْهُدَى الْمَتِينُ الَّذِي لَا اِعْوِجَاجَ فِيهِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ اِبْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ}، تَبَرِّيًا مِنَ الَّذِي يَقُولُونَ فِيهِ- يَعْنِي: مَا يَقُولُ فِيهِ النَّصَارَى- وَاحْتِجَاجًا لِرَبِّهِ عَلَيْهِمْ {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}، أَيْ: هَذَا الَّذِي قَدْ حَمَلْتُكُمْ عَلَيْهِ وَجِئْتُكُمْ بِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِيقِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ}. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} بِكَسْرِ"أَلِفِ""إِنَّ" عَلَى اِبْتِدَاءِ الْخَبَرِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: (أَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ)، بِفَتْحِ"أَلِفِ""إِنَّ)، بِتَأْوِيلِ: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، أَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، عَلَى رَدِّ"أَنَّ" عَلَى "الآيَةِ)، وَالْإِبْدَالِ مِنْهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا مَا عَلَيْهِ قَرَأَةُ الْأَمْصَارِ، وَذَلِكَ كَسْرُ أَلِفِ"إِنَّ" عَلَى الِابْتِدَاءِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مَنَ الْقَرَأَةِ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ. وَمَا اِجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ فَحُجَّةٌ، وَمَا اِنْفَرَدَ بِهِ الْمُنْفَرِدُ عَنْهَا فَرَأْيٌ. وَلَا يَعْتَرِضُ بِالرَّأْيِ عَلَى الْحُجَّةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا خَبَرًا، فَفِيهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَفْدِ الَّذِينَ حَاجُّوهُ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، بِإِخْبَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَنَّ عِيسَى كَانَ بَرِيئًا مِمَّا نَسَبَهُ إِلَيْهِ مَنْ نَسُبُّهُ إِلَى غَيْرِ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، مِنْ أَنَّهُ لِلَّهِ عَبْدٌ كَسَائِرِ عَبِيدِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، إِلَّا مَا كَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَصَّهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْحُجَجَ الَّتِي آتَاهُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ- كَمَا آتَى سَائِرَ الْمُرْسَلِينَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَعْلَامِ وَالْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ- وَحُجَّةً عَلَى نُبُوَّتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (52] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ)، فَلَمَّا وَجَدَ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ. "وَالْإِحْسَاسُ)، هُوَ الْوُجُودُ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [سُورَةَ مَرْيَمَ: 98]. فَأَمَّا "الحَسُّ)، بِغَيْرِ"أَلْفٍ)، فَهُوَ الْإِفْنَاءُ وَالْقَتْلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ: 152]. "وَالْحَسُّ" أَيْضًا الْعَطْفُ وَالرِّقَّةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ: هَـلْ مَنْ بَكَى الدَّارَ رَاجٍ أَنْ تَحِسَ لَهُ، *** أَوْ يُبْكِـيَ الـدَّارَ مَـاءُ الْعَبْرَةِ الْخَضِلُ؟ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "أَنْ تُحِسَّ لَهُ)، أَنْ تَرِقَّ لَهُ. فَتَأْوِيل الْكَلَامِ: فَلَمَّا وَجَدَ عِيسَى- مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ- جُحُودًا لِنُبُوَّتِهِ، وَتَكْذِيبًا لِقَوْلِهِ، وَصَدًّا عَمَّا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، قَالَ: "مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ"؟، يَعْنِي بِذَلِكَ: قَالَ عِيسَى: مَنْ أَعْوَانِي عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِحُجَّةِ اللَّهِ، وَالْمُوَلِّينَ عَنْ دِينِهِ، وَالْجَاحِدِينَ نُبُوَّةَ نَبِيِّهِ، "إِلَى اللَّهِ" عَزَّ وَجَلَّ؟ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: "إِلَى اللَّهِ)، مَعَ اللَّهِ. وَإِنَّمَا حَسُنَ أَنْ يُقَالَ: "إِلَى اللَّهِ)، بِمَعْنَى: مَعَ اللَّهِ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ إِذَا ضَمُّوا الشَّيْءَ إِلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ أَرَادُوا الْخَبَرَ عَنْهُمَا بِضَمِّ أَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ، جَعَلُوا مَكَانَ"مَعَ)، "إِلَى" أَحْيَانًا، وَأَحْيَانًا تُخْبِرُ عَنْهُمَا بِـ"مَعَ" فَتَقُولُ: (الذَّوْد إِلَى الذَّوْدِ إِبِلٌ)، بِمَعْنَى: إِذَا ضَمَمْتَ الذَّوْدَ إِلَى الذَّوْدِ صَارَتْ إِبِلًا. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ مَعَ الشَّيْءِ لَمْ يَقُولُوهُ بِـ"إِلَى)، وَلَمْ يَجْعَلُوا مَكَانَ"مَعَ""إِلَى". غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: "قَدِمَ فُلَانٌ وَإِلَيْهِ مَالٌ)، بِمَعْنَى: وَمَعَهُ مَالٌ. وَبِمَثَلٍ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: "مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)، قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}، يَقُولُ: مَعَ اللَّهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}، يَقُولُ: مَعَ اللَّهِ. وَأَمَّا سَبَبُ اِسْتِنْصَارِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنِ اِسْتَنْصَرَ مَنَ الْحَوَارِيِّينَ، فَإِنَّ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ اِخْتِلَافًا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنِي بِهِ مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ عِيسَى، فَأَمَرَهُ بِالدَّعْوَةِ، نَفَتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَخْرَجُوهُ، فَخَرَجَ هُوَ وَأُمُّهُ يَسِيحُونَ فِي الْأَرْضِ. فَنَـزَلَ فِي قَرْيَةٍ عَلَى رَجُلٍ فَضَافَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ. وَكَانَ لِتِلْكَ الْمَدِينَةِ مَلِكٌ جَبَّارٌ مُعْتَدٍ، فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَوْمًا وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ هَمٌّ وَحُزْنٌ، فَدَخَلَ مَنْـزِلَهُوَمَرْيَمُعِنْدَ اِمْرَأَتِهِ. فَقَالَتْمَرْيَمُلَهَا: مَا شَأْنُ زَوْجِكَ؟ أُرَاهُ حَزِينًا! قَالَتْ: لَا تَسْأَلِي! قَالَتْ: أَخْبِرِينِي! لَعَلَّ اللَّهَ يُفَرِّجُ كُرْبَتَهُ! قَالَتْ: فَإِنَّ لَنَا مَلِكًا يَجْعَلُ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا يَوْمًا يُطْعِمُهُ هُوَ وَجُنُودَهُ وَيَسْقِيهِمْ مِنَ الْخَمْرِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ عَاقَبَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَتْ نَوْبَتُهُ الْيَوْمَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ نَصْنَعَ لَهُ فِيهِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ عِنْدَنَا سَعَةٌ! قَالَتْ: فَقُولِي لَهُ لَا يَهْتَمَّ، فَإِنِّي آمُرُ ابْنِي فَيَدْعُو لَهُ، فيُكْفَي ذَلِكَ. قَالَتْمَرْيَمُ لِعِيسَى فِي ذَلِكَ، قَالَ عِيسَى: يَا أمَّهْ، إِنِّي إِنْ فَعَلْتُ كَانَ فِي ذَلِكَ شَرٌّ. قَالَتْ: فَلَا تُبَالِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا وَأَكْرَمَنَا! قَالَ عِيسَى: فَقُولِي لَهُ: إِذَا اِقْتَرَبَ ذَلِكَ، فَامْلَأْ قُدُورَكَ وَخَوَابِيكَ مَاءً، ثُمَّ أَعْلِمْنِي. قَالَ: فَلَمَّا مَلَأَهُنَّ أَعْلَمَهُ، فَدَعَا اللَّهَ، فَتَحَوَّلَ مَا فِي الْقُدُورِ لَحْمًا وَمَرَقًا وَخُبْزًا، وَمَا فِي الْخَوَابِي خَمْرًا لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ قَطُّ وَإِيَّاهُ طَعَامًا. فَلَمَّا جَاءَ الْمَلِكُ أَكَلَ، فَلَمَّا شَرِبَ الْخَمْرَ سَأَلَ: مَنْ أَيْنَ هَذِهِ الْخَمْرُ؟ قَالَ لَهُ: هِيَ مَنْ أَرْضِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ الْمَلِكُ: فَإِنَّ خَمْرِي أُوتَى بِهَا مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ، فَلَيْسَ هِيَ مِثْلَ هَذِهِ! قَالَ: هِيَ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى. فَلَمَّا خَلَّطَ عَلَى الْمَلِكِ اِشْتَدَّ عَلَيْهِ، قَالَ: فَأَنَا أُخْبِرُكَ، عِنْدِي غُلَامٌ لَا يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَإِنَّهُ دَعَا اللَّهَ، فَجَعَلَ الْمَاءَ خَمْرًا. قَالَ الْمَلِكُ وَكَانَ لَهُ اِبْنٌ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَخْلِفَهُ، فَمَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، وَكَانَ أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا دَعَا اللَّهَ حَتَّى جَعَلَ الْمَاءَ خَمْرًا، لَيُسْتَجَابَنَّ لَهُ حَتَّى يُحْيِيَ اِبْنِي! فَدَعَا عِيسَى فَكَلَّمَهُ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ فَيُحْيِيَ اِبْنَهُ، فَقَالَ عِيسَى: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّهُ إِنْ عَاشَ كَانَ شَرًّا. فَقَالَ الْمَلِكُ: لَا أُبَالِي، أَلَيْسَ أَرَاهُ، فَلَا أُبَالِي مَا كَانَ. فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَإِنْ أَحْيَيْتُهُ تَتْرُكُونِي أَنَا وَأُمِّي نَذْهَبُ أَيْنَمَا شِئْنَا؟ قَالَ الْمَلِكُ: نَعَمْ. فَدَعَا اللَّهَ فَعَاشَ الْغُلَامُ. فَلَمَّا رَآهُ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ قَدْ عَاشَ، تَنَادَوْا بِالسِّلَاحِ وَقَالُوا: أَكَلَنَا هَذَا، حَتَّى إِذَا دَنَا مَوْتُهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ اِبْنَهُ، فَيَأْكُلَنَا كَمَا أَكَلَنَا أَبُوهُ!! فَاقْتَتَلُوا، وَذَهَبَ عِيسَى وَأُمُّهُ، وَصَحِبَهُمَا يَهُودِيٌّ، وَكَانَ مَعَ الْيَهُودِيِّ رَغِيفَانِ، وَمَعَ عِيسَى رَغِيفٌ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: شَارِكْنِي. فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: نَعَمْ. فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَيْسَ مَعَ عِيسَى إِلَّا رَغِيفٌ نَدِمَ، فَلَمَّا نَامَا جَعَلَ الْيَهُودِيُّ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ الرَّغِيفَ، فَلَمَّا أَكَلَ لُقْمَةً قَالَ لَهُ عِيسَى: مَا تَصْنَعُ؟ فَيَقُولُ: لَا شَيْءَ! فَيَطْرَحُهَا، حَتَّى فَرَغَ مِنَ الرَّغِيفِ كُلِّهِ. فَلَمَّا أَصْبَحَا قَالَ لَهُ عِيسَى: هَلُمَّ طَعَامَكَ! فَجَاءَ بِرَغِيفٍ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: أَيْنَ الرَّغِيفُ الْآخَرُ؟ قَالَ: مَا كَانَ مَعِي إِلَّا وَاحِدٌ. فَسَكَتَ عَنْهُ عِيسَى، فَانْطَلَقُوا، فَمَرُّوا بِرَاعِي غَنَمٍ، فَنَادَى عِيسَى: يَا صَاحِبَ الْغَنَمِ، أَجْزِرْنَا شَاةً مِنْ غَنَمِكَ. قَالَ: نَعَمْ، أَرْسِلْ صَاحِبَكَ يَأْخُذْهَا. فَأَرْسَلَ عِيسَى الْيَهُودِيَّ، فَجَاءَ بِالشَّاةِ فَذَبَحُوهَا وَشَوَوْهَا، ثُمَّ قَالَ لِلْيَهُودِيِّ: كُلْ، وَلَا تَكْسِرَنَّ عَظْمًا. فَأَكَلَا. فَلَمَّا شَبِعُوا، قَذَفَ عِيسَى الْعِظَامَ فِي الْجِلْدِ، ثُمَّ ضَرَبَهَا بِعَصَاهُ وَقَالَ: قُومِي بِإِذْنِ اللَّهِ! فَقَامَتِ الشَّاةُ تَثْغُو، فَقَالَ: يَا صَاحِبَ الْغَنَمِ، خُذْ شَاتَكَ. فَقَالَ لَهُ الرَّاعِي: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ. قَالَ: أَنْتَ السَّاحِرُ! وَفَرَّ مِنْهُ. قَالَ: عِيسَى لِلْيَهُودِيِّ: بِالَّذِي أَحْيَى هَذِهِ الشَّاةَ بَعْدَمَا أَكَلْنَاهَا، كَمْ كَانَ مَعَكَ رَغِيفًا؟ فَحَلَفَ مَا كَانَ مَعَهُ إِلَّا رَغِيفٌ وَاحِدٌ، فَمَرُّوا بِصَاحِبِ بَقْرٍ، فَنَادَى عِيسَى فَقَالَ: يَا صَاحِبَ الْبَقَرِ، أَجْزِرْنَا مِنْ بَقَرِكَ هَذِهِ عِجْلًا. قَالَ: اِبْعَثْ صَاحِبَكَ يَأْخُذْهُ. قَالَ: اِنْطَلِقْ يَا يَهُودِيٌّ فَجِئْ بِهِ. فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بِهِ. فَذَبَحَهُ وَشَوَاهُ وَصَاحِبُ الْبَقَرِ يَنْظُرُ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: كُلْ وَلَا تَكْسِرَنَّ عَظْمًا. فَلَمَّا فَرَغُوا، قَذَفَ الْعِظَامَ فِي الْجِلْدِ ثُمَّ ضَرَبَهُ بِعَصَاهُ، وَقَالَ: قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ. فَقَامَ وَلَهُ خُوَارٌ، قَالَ: خُذْ عِجْلَكَ. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عِيسَى. قَالَ: أَنْتَ السَّحَّارُ! ثُمَّ فَرَّ مِنْهُ. قَالَ الْيَهُودِيُّ: يَا عِيسَى أَحْيَيْتَهُ بَعْدَ مَا أَكَلْنَاهُ! قَالَ عِيسَى: فَبِالَّذِي أَحْيَا الشَّاةَ بَعْدَ مَا أَكَلْنَاهَا، وَالْعَجَلَ بَعْدَ مَا أَكَلْنَاهُ، كَمْ كَانَ مَعَكَ رَغِيفًا؟ فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا كَانَ مَعَهُ إِلَّا رَغِيفٌ وَاحِدٌ. فَانْطَلَقَا، حَتَّى نَـزَلَا قَرْيَةً، فَنَـزَلَ الْيَهُودِيُّ أَعْلَاهَا وَعِيسَى فِي أَسْفَلِهَا، وَأَخَذَ الْيَهُودِيُّ عَصًا مِثْلَ عَصَا عِيسَى وَقَالَ: أَنَا الْآنَ أُحْيِي الْمَوْتَى! وَكَانَ مَلِكُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ مَرِيضًا شَدِيدَ الْمَرَضِ، فَانْطَلَقَ الْيَهُودِيُّ يُنَادِي: مَنْ يَبْتَغِي طَبِيبًا؟ حَتَّى أَتَى مِلْكَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، فَأُخْبِرَ بِوَجَعِهِ، فَقَالَ: أَدْخِلُونِي عَلَيْهِ فَأَنَا أُبْرِئُهُ، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُ قَدْ مَاتَ فَأَنَا أُحْيِيهِ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ وَجَعَ الْمَلِكِ قَدْ أعيَى الْأَطِبَّاءَ قَبْلَكَ، لَيْسَ مِنْ طَبِيبٍ يُدَاوِيهِ وَلَا يُفِيءُ دَوَاؤُهُ شَيْئًا إِلَّا أَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ. قَالَ: أَدْخَلُونِي عَلَيْهِ، فَإِنِّي سَأُبْرِئُهُ. فَأُدْخِلُ عَلَيْهِ فَأَخَذَ بِرَجْلِ الْمَلِكِ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِعَصَاهُ وَهُوَ مَيِّتٌ وَيَقُولُ: قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ! فَأُخِذَ لِيُصْلَبَ، فَبَلَغَ عِيسَى، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ وَقَدْ رَفَعَ عَلَى الْخَشَبَةِ، فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَحْيَيْتُ لَكُمْ صَاحِبَكُمْ، أَتَتْرُكُونَ لِي صَاحِبِي؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَأَحْيَى اللَّهُ الْمَلِكَ لِعِيسَى، فَقَامَ وَأَنْـزَلَ الْيَهُودِيَّ فَقَالَ: يَا عِيسَى أَنْتَ أَعْظَمُ النَّاسِ عَلِيَّ مِنَّةً، وَاللَّهِ لَا أُفَارِقُك أَبَدً. قَالَ عِيسَى فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ لِلْيَهُودِيِّ: أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَحْيَى الشَّاةَ وَالْعَجَلَ بَعْدَ مَا أَكَلْنَاهُمَا، وَأَحْيَى هَذَا بَعْدَ مَا مَاتَ، وَأَنْـزَلَكَ مِنَ الْجِذْعِ بَعْدَ مَا رُفِعْتَ عَلَيْهِ لِتُصْلَبَ، كَمْ كَانَ مَعَكَ رَغِيفًا؟ قَالَ: فَحَلَفَ بِهَذَا كُلِّهِ مَا كَانَ مَعَهُ إِلَّا رَغِيفٌ وَاحِدٌ، قَالَ: لَا بَأْسَ! فَانْطَلَقَا، حَتَّى مَرَّا عَلَى كَنْـزٍ قَدْ حَفَرَتْهُ السِّبَاعُ وَالدَّوَابُّ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: يَا عِيسَى، لِمَنْ هَذَا الْمَالُ؟ قَالَ عِيسَى: دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَهْلًا يَهْلِكُونَ عَلَيْهِ. فَجَعَلَتْ نَفْسُ الْيَهُودِيِّ تَطَلَّعُ إِلَى الْمَالِ، وَيَكْرَهُ أَنْ يَعْصَى عِيسَى، فَانْطَلَقَ مَعَ عِيسَى. وَمَرَّ بِالْمَالِ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ اِجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ: اِثْنَانِ لِصَاحِبَيْهِمَا: اِنْطَلِقَا فَابْتَاعَا لَنَا طَعَامًا وَشَرَابًا وَدَوَابًّا نَحْمِلُ عَلَيْهَا هَذَا الْمَالَ. فَانْطَلَقَ الرَّجُلَانِ فَابْتَاعَا دَوَابًّا وَطَعَامًا وَشَرَابًا، وَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: هَلْ لَكَ أَنْ نَجْعَلَ لِصَاحِبَيْنَا فِي طَعَامِهِمَا سُمًّا، فَإِذَا أَكَلَا مَاتَا، فَكَانَ الْمَالُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَقَالَ الْآخَرُ: نَعَمْ! فَفَعَلَا. وَقَالَ الْآخَرَانِ: إِذَا مَا أَتَيَانَا بِالطَّعَامِ، فَلْيَقُمْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى صَاحِبِهِ فَيَقْتُلُهُ، فَيَكُونُ الطَّعَامُ وَالدَّوَابُّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. فَلَمَّا جَاءَا بِطَعَامِهِمَا قَامَا فَقَتَلَاهُمَا، ثُمَّ قَعَدَا عَلَى الطَّعَامِ فَأَكَلَا مِنْهُ، فَمَاتَا. وَأُعْلِمُ ذَلِكَ عِيسَى، فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: أَخْرِجْهُ حَتَّى نَقْتَسِمَهُ، فَأَخْرَجَهُ، فَقَسَّمَهُ عِيسَى بَيْنَ ثَلَاثَةٍ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: يَا عِيسَى، اِتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَظْلِمْنِي، فَإِنَّمَا هُوَ أَنَا وَأَنْتَ!! وَمَا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ؟ قَالَ لَهُ عِيسَى: هَذَا لِي، وَهَذَا لَكَ، وَهَذَا الثُّلْثُ لِصَاحِبِ الرَّغِيفِ. قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَإِنْ أَخْبَرْتُكَ بِصَاحِبِ الرَّغِيفِ، تُعْطِيَنِي هَذَا الْمَالَ؟ فَقَالَ عِيسَى: نَعَمْ. قَالَ: أَنَا هُوَ. قَالَ: عِيسَى: خُذْ حَظِّي وَحَظَّكَ وَحَظَّ صَاحِبِ الرَّغِيفِ، فَهُوَ حَظُّكَ مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَلَمَّا حَمَلَهُ مَشَى بِهِ شَيْئًا، فَخُسِفَ بِهِ. وَانْطَلَقَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ، فَمَرَّ بِالْحَوَارِيِّينَ وَهَمْ يَصْطَادُونَ السَّمَكَ، فَقَالَ: مَا تَصْنَعُونَ؟ فَقَالُوا: نَصْطَادُ السَّمَكَ. فَقَالَ: أَفَلَا تَمْشُونَ حَتَّى نَصْطَادَ النَّاسَ؟ قَالُوا: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ، فَآمَنُوا بِهِ وَانْطَلَقُوا مَعَهُ. فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّه آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}، الْآيَةَ قَالَ: اِسْتَنْصَرَ فَنَصَرَهُ الْحَوَارِيُّونَ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ سَبَبُ اِسْتِنْصَارِ عِيسَى مِنِ اِسْتَنْصَرَ، لِأَنَّ مَنِ اِسْتَنْصَرَ الْحَوَارِيِّينَ عَلَيْهِ كَانُوا أَرَادُوا قَتْلَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ}، قَالَ: كَفَرُوا وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَذَلِكَ حِينَ اِسْتَنْصَرَ قَوْمَهُ "قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ". "وَالْأَنْصَارُ)، جَمْعُ "نَصِيرٍ)، كَمَا "الأَشْرَافُ" جَمْعُ شَرِيفٍ، "وَالْأَشْهَادُ" جَمْعُ "شَهِيدٍ". وَأَمَّا" الْحَوَارِيُّونَ)، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اِخْتَلَفُوا فِيالسَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ سُمُّوا "حَوَارِيُّونَ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ قَالَ: مِمَّا رَوَى أَبِي قَالَ، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ مَيْسَرَةَ، عَنِ الْمُنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمُّوا" الْحَوَارِيِّينَ)، بِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: سُمُّوْا بِذَلِكَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَصَّارِينَ يُبَيِّضُونَ الثِّيَابَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِي أَرْطَأَةَ قَالَ: " الْحَوَارِيُّونَ)، الْغَسَّالُونَ الَّذِينَ يُحَوِّرُونَ الثِّيَابَ، يَغْسِلُونَهَ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ خَاصَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَصَفْوَتُهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، أَنَّ قَتَادَةَ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَانَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ. فَقِيلَ لَهُ: مَنِ الْحَوَارِيُّونَ؟ قَالَ: الَّذِينَ تَصْلُحُ لَهُمُ الْخِلَافَةُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: "إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ)، قَالَ: أَصْفِيَاءُ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَشْبَهُ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي مَعْنَى" الْحَوَارِيِّينَ)، قَوْلُ مَنْ قَالَ: "سُمُّوْا بِذَلِكَ لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا غَسَّالِينَ". وَذَلِكَ أَنْ "الحَوَرَ" عِنْدَ الْعَرَبِ شِدَّةُ الْبَيَاضِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ "الحُوَّارَى" مِنَ الطَّعَامِ"حُوَّارَى" لِشِدَّةِ بَيَاضِهِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّجُلِ الشَّدِيدِ الْبَيَاضِ مُقْلَةِ الْعَيْنَيْنِ"أَحْوَرُ)، وَلِلْمَرْأَةِ"حَوْرَاءُ". وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَوَارِيُّو عِيسَى كَانُوا سُمُّوا بِالَّذِي ذَكَرْنَا، مَنْ تَبْيِيضِهِمُ الثِّيَابَ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا قَصَّارِينَ، فَعُرِفُوا بِصُحْبَةِ عِيسَى، وَاخْتِيَارِهِ إِيَّاهُمْ لِنَفْسِهِ أَصْحَابًا وَأَنْصَارًا، فَجَرَى ذَلِكَ الِاسْمُ لَهُمْ، وَاسْتُعْمِلَ، حَتَّى صَارَ كُلُّ خَاصَّةٍ لِلرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَنْصَارِهِ: "حَوَارِيُّهُ)، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍ حِوَارِيًّا، وَحِوَارِيِّ الزُّبَيْرُ"). يَعْنِي خَاصَّتَهُ. وَقَدْ تُسَمِّي الْعَرَبُ النِّسَاءَ اللَّوَاتِي مَسَاكِنُهُنَّ الْقُرَى وَالْأَمْصَارَ"حَوَارِيَّاتٌ)، وَإِنَّمَا سُمِّيْنَ بِذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْبَيَاضِ عَلَيْهِنَّ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي جَلْدَةَ الْيَشْكُرِيِّ: فَقُـلْ لِلْحَوَارِيَّـاتِ يَبْكِـينَ غَيْرَنَـا *** وَلَا تَبْكِنَـا إِلَّا الْكِـلَابُ النَّـوابِحُ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: "قَالَ الْحَوَارِيُّونَ)، قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ مَا ذَكَرْنَا، مِنْ تَبْيِيضِهِمُ الثِّيَابَ: "آمَنَّا بِاللَّهِ)، صَدِّقْنَا بِاللَّهِ، وَاشْهَدْ أَنْتَ يَا عِيسَى بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُهُ الَّذِي اِبْتَعَثَ بِهِ عِيسَى وَالْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ، لَا النَّصْرَانِيَّةَ وَلَا الْيَهُودِيَّةَ وَتَبْرِئَةٌ مِنَ اللَّهِ لِعِيسَى مِمَّنِ اِنْتَحَلَ النَّصْرَانِيَّةَ وَدَانَ بِهَا، كَمَا بَرَّأَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ اِحْتِجَاجٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَفْدِ نَجْرَانَ، كَمَا:- حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} " وَالْعُدْوَانَ {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ}، وَهَذَا قَوْلُهُمُ الَّذِي أَصَابُوا بِهِ الْفَضْلَ مِنْ رَبِّهِمْ {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، لَا كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُحَاجُّونَكَ فِيهِ- يَعْنِي وَفْدَ نَصَارَى نَجْرَانَ.
|